فصل: باب: مَنْ رَايَا بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ، أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ، أَوْ فَخَرَ بِه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتُبْ‏}‏ ‏{‏مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏ باب قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ ‏(‏3‏)‏

باب‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ ‏(‏4‏)‏

وَقالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ ‏(‏4‏)‏ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ‏.‏ ‏{‏فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ‏}‏ ‏(‏5‏)‏ يُقَالُ‏:‏ مِنْ مَسَدٍ‏:‏ ليفِ المُقْلِ، وَهيَ السِّلسِلَةُ الَّتِي في النَّارِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لِيف المُقْل‏)‏ كوكل كىىهال لأنه يَأخُذ النَّار بالسُّرْعة‏.‏

سُورَةُ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏

يُقَالُ‏:‏ لاَ يُنَوَّنُ ‏{‏أَحَدٍ‏}‏ أَي وَاحِدٌ‏.‏

باب‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ ‏(‏2‏)‏ وَالعَرَبُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا الصَّمَدَ، قالَ أَبُو وَائِلٍ‏:‏ هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهى سُودَدُهُ‏.‏

باب‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ كُفُؤًا وَكَفِيئاً وَكِفَاءً‏:‏ وَاحِدٌ

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏أَحَدٍ‏}‏‏)‏ ترجمته‏:‏ يكانه، فَهُوَ وَصْف باعتبارِ ذاته تعالى، والواحد من جملة العدد، فكلنا واحد لا اثنان، فالواحد يدل على وجودِ غيرِه سواه، بخلاف لفظ أَحَد، ولذا وَصَفه به، فإِنه كان ولم يكن شيءٌ غَيْرُه‏.‏ وراجع «الإتقان» للفَرْق بين أَحَد وبين واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقال‏:‏ لا يُنَوّن ‏{‏أَحَداً‏}‏‏)‏ إلخ، على حَدّ قول الشاعر‏:‏

لا ذَاكر الله إلاَّ قليلاً

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏الصَّمَدُ‏}‏‏)‏ ترجمته‏:‏ نرادهر بى نياز ومستقل- «أدهر» بيج مين لتكاهوا‏.‏

فائدة مهمة‏:‏

واعلم أنه قد تتحدث بعضُ النفوس أن لو كان القرآنُ على شاكلةِ البراهين المنطقية، مُطّردة منعكسة، ويزعمونه زيناً للقرآن، ولا يدرون أن ذلك شَيْن له، فإِنه طريقُ الفلسفة المجهولة المستحدَثة، والقرآن نزل بحوار عرب العرباء، وهم لا يتكلمون فيما بينهم، إلا بالخطابة، فلو كان القرآنُ نزل على أمانيّهم، لعجز عن فَهْمه أكثرُ الناس، ولانسَدّ عليهم بابُ الهداية‏.‏ نعم تتضمن تلك الخطابةُ براهينَ قاهرة، على دَاويه، فلو أراد أَحَدُ أن يستنبطها منه لَفَعل، ولكن لا تكون تلك من مَدْلولاتِه، وإن كانت من مراميه، فلا تَصْلح تلك الأشياءُ أن تُسمَّى تفسيراً للقرآن، كيف وأنه لم ينزل إلاَّ بِلُغتهم ومحاورَتهم، وهم لا يعرفون ذلك، أما لو سَمّيتها فوائد وزوائد، فلا بأس به‏.‏

وبالجملة إنَّ مادة تلك الأشياء، وإنْ كانت في القرآن، لكنها لا تليقُ أن تُسمّى تفسيراً، ولذا أقول‏:‏ إنَّ ما اختاره التفتازاني في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ أنه خطابة، وليس بِبُرهان هو الصواب‏.‏ ومَنْ أراد أن يَقْلبه في قوالب البراهين، فقد أَحسَن أيضاً، إلاَّ أنا لا نسمِّيه تفسيراً‏.‏ وإنما يَذُوق ما قلنا مَنْ كان له يدٌ في فنون البلاغة، ومَنْ كان ارتاض بالفنون العقلية، فإِنه يشمئز منه، ويمل، فليفعل، فإِن الحق أحقُّ أن يُتّبع‏.‏

سُورَةُ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ‏}‏

وَقالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ الفَلَقُ الصُّبْحُ، و ‏{‏غَاسِقٍ‏}‏ اللَّيلُ‏.‏ ‏{‏إِذَا وَقَبَ‏}‏ ‏(‏3‏)‏ غُرُوبُ الشَّمْسِ؛ يُقَالُ‏:‏ أَبْيَنُ مِنْ فَرَقِ وَفَلَقِ الصُّبْحِ‏.‏ ‏{‏وَقَبَ‏}‏ إِذَا دَخَلَ في كُلِّ شَيءٍ وَأَظْلَمَ‏.‏

سُورَةُ‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ‏}‏

وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏الْوَسْوَاسِ‏}‏ ‏(‏4‏)‏ إِذَا وُلِدَ خَنَسَهُ الشَّيطَانُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَهَبَ، وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ اللَّهُ ثَبَثَ عَلَى قَلبِهِ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ قيل لي فقلت‏)‏ واعلم أنه نُسِب إلى ابن مسعود أن المُعَوّذتين لم تكونا عنده من القرآن، وكان يقول‏:‏ إنهما نزلتا للحوائج الوقتيةِ، كالتعوذ، فهما وظيفتانِ وقتيتان على شاكلةِ سائر الوظائف والأدعية، فلا يجوز إدخالُهما في القرآن، وكان يتمسك له مِن قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏، فإِنه يدل على تعليمه إياه، على طريق سائر الأدعية‏.‏ فأجاب عنه زِرّ بن حُبَيش، وهو تلميذ ابنِ مسعود‏.‏ وحاصله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال له جبرئيلُ عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ فقال كما أَمَره، فنحن أيضاً نقول كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم على أن ‏{‏قُلْ‏}‏ في سورة الإِخلاص أيضاً‏.‏

وبالجملة كان الخلافُ بينهما كالخلافِ في الرَّمَل في الحج، زعمه بَعْضُهم سُنةً وقتية، والجمهور على أنه سُنّة مستمرة، فهكذا كان ابنُ مسعود يراهما وظيفةً وقتية، لا أنه كان يُنْكر كَونَهما مُنْزَلَتين من السماء‏.‏ وبحث فيه الحافظُ، وآل إلى أنه لم يكن يُنْكر قرآنيتِه، ولكنه كان يُنْكر كتابته في المصحف‏.‏ ومَرّ عليه بحرُ العلوم في «شَرْح مُسَلَّم الثُّبوت»، تحت تعريف القرآن، وقال‏:‏ إنَّ سلسلة القراءةِ التي تبلغ اليوم إلى ابن مسعود نجد فيها المعوّذتَين بالاتفاق؛ وحينئذ ينبغي أن يؤول في النقل المذكور‏.‏

66- كتاب فَضَائِلِ القُرْآنِ

باب‏:‏ كَيفَ نُزُولُ الوَحْيِ، وَأَوَّلُ ما نَزَل

قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ المُهَيمِنُ‏:‏ الأَمِينُ، القُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ‏.‏

باب‏:‏ نَزَلَ القُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيشٍ وَالعَرَب

‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيّا‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 2‏)‏، ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 195‏)‏‏.‏

باب‏:‏ جَمْعِ القُرْآن

4981- قوله‏:‏ ‏(‏ما مِنْ نبيَ مِن الأنبياء إلاَّ أُعْطِي ما مِثْلُه آمَن عليه البَشَرُ‏)‏ ما موصولةٌ، ومثلُهُ مبتدأٌ، وآمَن عليه البَشَرُ خبرُهُ، والمبتدأ مع خبرِه صِلةٌ للموصول‏.‏ والمعنى أنَّ كلَّ نبيِّ أُعطي من المعجزات ما ناسبَ زمانَه، ليؤمن به البشرُ في زمانه‏.‏ واعلم أنَّ «على» لم يوجد في صلة الإيمان إلاَّ في هذا الحديث، فاختار الطيبيُّ التَّضْمِين‏.‏ قلتُ‏:‏ والحديثُ ليس بحُجَّةٍ عندي في باب اللغة، لِفُشُوّ الراويةِ بالمعنى، فلا حاجةَ إلى الجواب‏.‏

بَحْثٌ نَفِيسٌ في الفَرْق بين‏:‏ السِّحْر، والمُعْجِزة، والكرامة

واعلم أنَّ مَن أرادَ أن يتحصَّل على الفَرْق بينهما حتى يدرِكَه، كالحسِّياتِ والمشاهَدات، فقد أَتْعَب نَفْسه، كيف وفي بُنْيةِ هذا العالم التلبيسُ والتخليط، ولو تميَّز الحقُّ عن الباطلِ، بحيث لا يشوبُه رَيْبٌ، لما احتِيج إلى القيامةِ، وإنما تقومُ القيامةُ للفَصْل بين الخبيثِ والطيِّبِ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏الأَنعام‏:‏ 60‏)‏، وإذن لا يكونُ التمييزُ بينهما إلاَّ علمياً، فاعلم أنَّ الدنيا مجموعةُ الأضداد، كالظُّلمة والنُّور، والظل والحَرُور، والطَّيِّب والخَبِيث، والكُفْر والإِيمان، فإِذا نظرنا أنها بُسِطت على هذا المِنْوال، عَلِمنا أنه لا بدَّ أن تكون فيها نفوسٌ على نقاضة المُرْسَلين‏.‏ فإِنَّ لكل شيءٍ ضِدّاً، وأضداد هؤلاء الطائفةِ لا تكون إلاَّ مِن جِنْسهم من الدجاجلة‏.‏

ثُم إذا عَلِمنا المعجزةَ، وهي حقيقةٌ قُدْسيَّةٌ، يُظْهرُها الله على أيدي المقدسين، عَلِمنا أنه لا بدَّ أن يكونَ هناك شيءٌ على مناقضَتِها أيضاً، وهو السِّحْر‏.‏

ثم المعجزةُ على نحْوين‏:‏ حِسِّيّة أو عِلْمية‏.‏ أما الحسِّية، كاليدِ البيضاء، أو العصا، فقد مضت بصاحِبها‏.‏ أما العِلْمية فهي باقيةٌ إلى يوم التناد‏.‏ ولو أَمْعَنت النَّظرَ لَعَلِمت أن المعجزةَ الحِسِّية أيضاً تنتهي إلى العِلْم أو العَقْل، وذلك لأنَّه لا سبيلَ إلى التمييزِ بين المعجزةِ والسِّحْر، ولو كانت حِسِّيةً إلاَّ بالعِلْم والعَقْل، فعلم أنَّ انتهاءَ المعجزةِ الحِسّية أيضاً إلى العِلْم والعقل، دون المشاهدة‏.‏ فإِذا دريت أَنَّ الفَرْق بينهما عَقْلي وعِلْمي، حتى بين الحسِّية والسِّحْر أيضاً، فأقول‏:‏ إنهما يَفْتَرِقان عِلْماً، بحيث لا يكادُ يلتبس على أحدٍ‏.‏ فإنَّ الفَرْق إما يكونُ من جهةِ الفاعل، أو المادَّة، أو الغاية، وذلك بأنواعها متحقِّقٌ ههنا‏.‏

أما الأَوَّل‏:‏ فالساحِرُ يكونُ خبيثَ النَّفْس، رديءَ الأخلاق، مُتلبِّساً بالخبائث‏.‏ وأما صاحبُ المعجزة‏:‏ فيكونُ طَيِّبَ النَّفْس، حسنَ المَلَكة، شريفَ الأخلاق، ذَكي الطَّبْع، بعيداً عن الأَرْجاس؛ وأما مِن جهةِ المادة، فمادةُ السِّحر كلُّها تُبنى على الخُبْث، كالاستمداد بالشياطين والأرواحِ الخبيثة، والذهاب إلى جماجم الأمواتِ، واستعمال عظامٍ نَخِرة، بخلاف المعجزةِ، فإِنَّها في أَغْلب الأحوالِ تَصْدُر بلا سبب، كاليدِ البيضاء، والعصا، فتلك لا مادّةَ لها، وما تَصْدُر عن سببٍ لا تكونُ مادَّتُها غيرَ القدس والطهارة، كقراءةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بكلمات في طعام، والبركةِ منها؛ أما الصورة، فإِنَّما تأتي على المادة كيف كانت، فهي أيضاً تتبعها‏.‏ بقيت الغايةُ فهي على ظاهرِ الأَمْر‏.‏

هذا في الفَرْق بين السِّحْر، والمعجزة‏.‏ أما الفَرْقُ بين الكرامةِ والمعجزة‏:‏ فبأن الكرامةَ تحتاجُ إلى صَرْفِ هِمَّة الولي، فللكَسْب والاكتساب دخلٌ فيها، بخلاف المعجزةِ، فإِنَّها لا تَحْتاج إلى صَرْف الهِمَّة‏.‏ وقراءةُ الكلماتِ شيءٌ آخَرُ، وإنَّما نعني مِن صَرْف الهِمَّة عزيمةَ صاحبها، وكذا لا دخل فيها للرياضات والاكتساب، فإِنَّها إما أن تكونَ من الدُّعاء، أو بدونِ سابقيةِ أَمْر، بخلافِ الكراماتِ فإِنَّها مُمْكِنةُ الحُصُولِ بالرياضاتِ؛ أما المعجزة فكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو استطعْتَ أن تَبْتَغي نَفَقاً في الأرض‏}‏أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءفَتَأتِيَهُم بآيةٍ الآية ‏(‏الأنعام‏:‏ 35‏)‏‏.‏ وراجع «فتح العزيز» عند تفسير قوله‏:‏ ‏{‏يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 102‏)‏‏.‏

4987- قوله‏:‏ ‏(‏وأمَرَ بما سِوَاه من القرآنِ في كلِّ صحيفةٍ، ومصحف أن يُحْرَق‏)‏ والإِحراقُ ههنا لِدَفْع الاختلاف، وهو جائزٌ‏.‏

باب‏:‏ كاتِبِ النبي صلى الله عليه وسلّم

4990- قوله‏:‏ ‏(‏فَنَزَلَتْ مَكَانَها‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَوِى الْقَعِدُونَ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فيه دليلٌ على ما قاله الأُصوليون من نزولِ الكلمة الناقصةِ، فإن المقصودَ كان قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ إلا أنَّ الآيةَ تُلِيت تامةً مع زيادة‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ‏}‏‏.‏

باب‏:‏ أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُف

قيل‏:‏ إنَّ عددَ السبعةِ للتكْثِير، وقيل‏:‏ للتحديدِ‏.‏ وراجع الزُّرقاني- «شَرْح الموطأ»- والقَسْطلاَّني، ففيهما أنَّ تلك الاختلافاتِ كلَّها راجِعةٌ إلى السعةِ، وقد تكلمنا عليه مُفَصَّلاً مِن قَبْل‏.‏

باب‏:‏ تَأْلِيفِ القُرْآن

4993- قوله‏:‏ ‏(‏فإِنَّه يُقْرأُ غيرَ مُؤَلَّف‏)‏ كان أهلُ العراق يقرءونَ القرآنَ على تأليفِ ابن مسعود، فأشار هذا العِرَاقي إلى مُصْحَفه، وعَرَض إليه، ولم يكن ابنُ مسعودٍ تَرَك قراءتَه بعد تأليفِ عثمانَ أيضاً، وذلك لأنَّ عثمانَ لم يُدْخِلْه في جَمْع القرآن، فَحَزِن له، فقال لأَهْل العراق‏:‏ اكتُموا مصاحِفَكم، فإِنَّ اللَّهَ تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَن يَغْلُلْ‏}‏يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ ‏(‏آل عمران‏:‏ 161‏)‏- كما رواه الترمذي- فردَّت عليه عائشةُ أَنَّه أيضاً مُؤلف، ثم انتقلت إلى بيانِ أَمْر آخَر، وهو أنَّ ترتيبَ النزولِ إنما هو باعتبارِ يُسْرِ الناس‏.‏ فإِنَّ السُّوَرَ المكيَّةَ أكثرُها في بيانِ العقائد، والمَدَنِيَّةَ أكثرُها في الأحكامِ فَرُوعي التخفيفُ على الناس في ترتيب نزول القرآن، حتى إذا رسخَ الإِسلامُ في بواطنهم، وخفَّ عليهم التعبُّدُ بالشَّرْع، نزلت السُّوَرُ بالأحكام، وذلك في المدينةِ‏.‏

4996- قوله‏:‏ ‏(‏قد عَلِمْتُ النَّظائِرَ‏)‏ وفي لَفْظ‏:‏ القَرَائن، دلَّ على تَناسُبٍ بين السورتين اللتين كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُقْرُن بينهما‏.‏ وقد مرّ معنا تحقيقُ لفظ القرائن، وأنه لا مَمْسكَ فيه لمن قال‏:‏ إنَّ الوِتْر ركعةٌ من الليل‏.‏

4996- قوله‏:‏ ‏(‏وآخِرُهنَّ الحَوامِيمُ‏)‏ يعني- حم والى سورتين- السُّوَر التي في أولها «حم»، فالألف واللام ترجمتها في الهندية‏:‏ والا‏.‏

باب‏:‏ ٌ‏:‏ كانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ القُرْآنَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلّم

وَقالَ مَسْرُوقٌ، عَنْ عائِشَةَ، عَنْ فاطِمَةَ عَلَيهَا السَّلاَمُ‏:‏ أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم «أَنَّ جِبْرِيلَ يُعَارِضُنِي بِالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عارَضَنِي العَامَ مَرَّتَينِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي»‏.‏

وفي هذه الروايةِ قال‏:‏ «إنَّ عُمُرَ كلِّ نبيَ نَصْفُ عُمُرَ الذي كان قَبْله»‏.‏ وهو في «المستدرك» وقد تكلَّمنا عليه مُفصَّلاً‏.‏ وفي روايةٍ‏:‏ «أنَّ أَهْلَ الجنةِ يكونون أبناءَ ثلاثٍ وثلاثينَ، على ميلادِ عيسى عليه الصلاة والسلام»‏.‏ ومرادُه كونُهم على حال المتشابه، مِثْل عيسى عليه الصلاة والسلام في السماء، فإِنَّهمن يَشِبُّون، فلا يَشِيبون فيها أبداً، كما أن عيسى عليه السلام لم يَتَغيَّر مع طول الزمان، وينزل كما رُفِع، بدون أن يَلْحَقه نَصَبٌ‏.‏

باب‏:‏ القُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلّم

قالَ شَقِيقٌ‏:‏ فَجَلَسْتُ في الحِلَقِ أَسْمَعُ ما يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادّاً يَقُولُ غَيرَ ذلِكَ‏.‏

5000- قوله‏:‏ ‏(‏فجلَسْتُ في الحِلَقِ، أسمعُ ما يقولون‏)‏ أي لأَسمع ما يقولون في جواب ما قاله ابنُ مسعود، فلم أرَ أحداً منهم رَدَّ قوله، بل سلّموا كلهم‏.‏

5001- قوله‏:‏ ‏(‏وَجَدَ رِيحَ الخَمْر‏)‏ وإنما وقع ذلك من ابنِ مسعودِ، حين ذهب إلى الشام، وفيه مسألتان‏:‏ الأُولى‏:‏ أنه لا حدَّ عندنا بِوِجْدانِ ريحِ الخَمْر فقط، لأنَّ الحدودَ تَنْدَرِىء بالشُّبهاتِ، وله أنْ يقول‏:‏ إنما سقيتها كرهاً أو غيره، فإِنْ أَقرَّ، فالحدُّ لإِقْرَاره، لا لأَجل الرِّيح؛ والثانية‏:‏ أن الحدَّ للإِمام، فكيف أقامَه ابنُ مسعود، ولنا فيه أَثَرُ عليَ‏.‏

5003- قوله‏:‏ ‏(‏مَنْ جَمَع القرآنَ على عَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال‏:‏ أربعةٌ كُلُّهم مِن الأَنْصار‏)‏ واعلم أنَّ القرآنَ جَمَعَهُ غيرُهم أيضاً، وهم كثيرونَ، وإنما يَذْكرُ الرواةُ أعداداً مُعَيَّنة، بحسب قَيْدٍ في نِيَّتهم، فَيُرَى في الظَّاهر أنهم أرادوا الحَصْر مُطْلقاً‏.‏

باب‏:‏ فاتِحَةِ الكِتَاب

وَقالَ أَبُو مَعْمَرٍ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ‏:‏ حَدَّثَنَا هِشَامٌ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ‏:‏ حَدَّثَني مَعْبَدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ بِهذا‏.‏

5006- قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ‏}‏ هي السَّبْعُ المَثانِي والقُرْآنُ العَظِيمُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وقد ألقينا عليك في التَّفْسير أنه يقال لها‏:‏ أُمُّ الكِتاب، لأنَّ الأُمَّ في اللُّغةِ هي الدجاجةُ التي تُقَرْقِرُ لتجمعَ إليها أفراخَها، ثُم قيل لِلِّواء‏:‏ الأُمّ، لاجتماع الجيشِ إليها عند الكَرِّ والفَرِّ، فإِنَّه ينبغي في الحَرْب مكاناً يجتمعونَ إليه عند الضَّرُورةِ، ويكون مَرْجِعاً لهم عند الذهاب والإِياب، وعليه تسميةُ الفاتحةِ بأُمِّ الكتاب، فإِنَّ الكتاب يذهب منها ويَرْجِعُ إليها، فهي المَرْجِع، كاللواء والأُم‏.‏

أما في القراءة، فهو ظاهرٌ، فإِنَّها مُتعَيّنة، كأَنها في مَوْضِعها، وسائر الكتابِ يَنْضمُّ معها بَدَلاً، فكأَنَّها أُمٌّ للقراءة، حيث تبتدأُ السُّوَر منها، ثُم تَرْجِع إليها في الرَّكْعة الثانيةِ، ولذا سُمِّيت بالمَثاني، أي لكونها مُتكرِّرَةً متعينة، بخلاف سائر السُّور، فإِنَّها واجِبةٌ عندنا على التخيير، وهي الشَّاكلة في الأحاديثِ، فقال‏:‏ «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب فصاعِداً»، وفي بعض الألفاظ‏:‏ «وما تيسر»، فجعل الفاتحةَ واجِبةً بعينها، وسائر السُّوَر مُخَيَّرة، فعبر عنها بقوله‏:‏ «فصاعداً» تارةً، وبقوله‏:‏ «ما تيسر» أُخْرى، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ‏}‏ ‏(‏الحجر‏:‏ 87‏)‏، فعبَّر عن سائرِ الكِتابِ سواها بالقرآنِ العظيم، وعَبَّر عن الفاتحة بالسَّبْع المثاني، فكانت الفاتحةُ واجِبةً عَيْناً، والقرآنُ العظيمُ واجِباً مخيَّراً، يقرأ منه ما تيسَّر‏.‏

وحينئذٍ ففيه إشارةٌ إلى وجوبِ ضَمِّ السُّورَةِ أيضاً، لأَنَّك قد عَلِمت فيما مرَّ أنَّ ما قَبْل «فصاعداً»، وما بعده يستويان في الوجوبِ وعدمِه، وعلى هذا وجوبُ السورةِ متعيّن في الحديث، لأن وجوبَ الفاتحةِ مما لا يُنْكر، والتسويةُ بين ما قَبْل «فصاعداً» وما بعده مما قد اشتُهر، فلزِم الوجوبُ فيهما، غيرَ أنَّ الفاتحةَ واجبةٌ عَيْناً، والسورةَ واجبةٌ بدَلاً، وإذا اتحدت شاكِلةُ القرآنِ والحديث، لزِم الاتحادُ بين مفادِ الشاكلتين أيضاً، وهو وجوبُ ضمِّ السورة‏.‏

ثُم إن في وَصْف الفاتحةِ بالمَثاني إشارةً إلى أنَّ الصلاةِ شَفْع، لأنَّه لما وَصَفها به، عَلِم أنها حيثما تُقْرأ تقرأ مكررةً، لَتتَّصِف بالمثاني، ولا تَكرارَ في ركعةٍ واحدةٍ اتفاقاً، فلا يكونُ أقلُّ الصلاةِ إلاَّ مَثْنى، فكونُ الركعةِ صلاةً برأسِها منفيٌّ في نظر الشَّارع، وقد قَرَّرناه في الوِتْر بأبسطِ وَجْه، ثُم لما لم تكن في الثلاثيةِ رَكْعةٌ رابعةٌ، وضع العَقْدةَ على الثانيةِ، وختم على الثالثةِ‏.‏ وقد مَرَّ معنا أن القرآنَ العظيمَ في نصِّ القرآنِ عبارةٌ عن سائرِ الكتاب غيرَ السَّبْع المثاني، بخلافه في الحديث، فإِنَّه ليس من باب عَطْف الخاصّ علي العام، كما فهمه الحافظ، بل القرآنُ العظيمُ هو السَّبْعُ المثاني، وذلك لأنَّ القرآنَ إذا عَبَّر عن الفاتحةِ بالسَّبْع المثاني، وعن سائر الكتابِ بالقرآنِ العظيم، أَوْهَم عَدَم شمولِ هذا العُنوان للفاتحةِ، فجاء الحديثُ، واستدركه، وقال‏:‏ إنَّ السَّبْع المثاني هو القرآنُ، فلا يتوهمنَّ أحَدٌ من عَطْف القرآنِ عليها أَنَّها ليست قرآناً، بل هي القرآنُ العظيم‏.‏

وبالجملة المزايا والنكاتُ في القرآنِ والحديث مختلِفةٌ، ولولا الاعتباراتُ لبطلت الحِكْمةُ، وهذه أمورٌ ذَوْقيَّة لا براهينَ، ويَذُوقُها مَنْ يرجع إلى وجدانه بِمَلَكَةٍ راسخةٍ، وبَرْد صَدْر، وعَدْلٍ ونِصَفة، فتأمل‏.‏ وقد جعل بَعْضُهم الفاتحةَ أَمّاً باعتبارِ جامِعيةِ مضامينها، فكأنها تَجْمَعُ القرآنَ كلَّه إليها، وذلك أيضاً نظر، ولتكن النكات كلتاهما، فإِنَّه لا تَزَاحُم بينها، بل يزيدُ حُسْناً إلى حُسْن، كقوله‏:‏

يزيدُك وَجْهُه حُسْناً *** إذا ما زِدْته نَظَراً

باب‏:‏ فَضْلُ البَقَرَة

قوله‏:‏ ‏(‏كَفَتَاهُ‏)‏ أي عن حقِّ القرآن، فإِنَّه ما من امرىء مُسْلمٍ، إلاَّ وحق عليه أن يأتي بجزءٍ منه في اللَّيل، فمن قرأهما كَفَتاه عن هذا الحقِّ، ولا يُطالِبه القرآنُ فيه‏.‏

5009- قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي مَسْعُود‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وعند محمد بي «كتاب الآثار» ابنُ مسعود، وبقيَّةُ الرواة ثِقاتٌ في الإِسنادين‏.‏ وروى محمدٌ عن أبي حنيفةَ بهذا الإِسناد أنَّ الوِتْر ثلاثُ رَكعاتٍ، وذَكَر لها ثلاثَ سُوَر، فاعلمه‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ الكَهْف

باب‏:‏ فَضْلِ سُورَةِ الفَتْح

5011- قوله‏:‏ ‏(‏بِشَطَنَينِ‏)‏ دور سيان جو كهورى كى تهوى كى نيجى باندهتى هين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سَحابَةٌ‏)‏ وهذه تُمثِّلُ السكينةَ، أراد اللَّهُ سبحانه أن يُرِيها، ولعل تلك الدَّوِي كانت من تسبيحِ الملائكةِ، ولا بُعْد في التمثُّل، فإِنَّه قد ذَكَر ابنُ خلدون أن المُشَعْبذين يُنْزلون الشيءَ أَوَّلاً في متخيلتهم، ثُم يُنْزِلونه من القوةِ المخيلة إلى الخارج، ولكنه لا ثباتَ له إلاَّ بِصَرْف هِمَّتهم، فإِذا كَفّوا هِمتَهم عنه انعدم‏.‏ قلتُ‏:‏ وإذا تمثَّلت المعاني في الدنيا، فَلِما الاستبعادُ عنه في الآخرة‏؟‏‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏

باب‏:‏ فَضْلِ المُعَوِّذَات

باب‏:‏ نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالمَلاَئِكَةِ عَندَ قِرَاءَةِ القُرْآن

قالَ ابْنُ الهَادِ‏:‏ وَحَدَّثَني هذا الحَدِيثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنْ أُسَيدِ بْنِ حُضَيرٍ‏.‏

5013- قوله‏:‏ ‏(‏وكأنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّها‏)‏ أي كأنَّ الناقِلَ تقالَّ فِعْل القارىء‏.‏

5013- قوله‏:‏ ‏(‏إنَّها لَتَعْدِل ثُلُثَ القُرْآن‏)‏ والإِشكالُ فيه، والجوابُ عنه مشهورٌ، فإِنَّ المرادَ أنَّ ثوابَ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ‏}‏ الأَصْلي مع التضعيفي يساوي الثوابَ الأَصْلي لِثُلُثِ القرآن‏.‏ أَما الثوابُ الإِنعامي لِثُلُث القرآنِ فيزيدُ عليه، بأَضعاف ذلك، وأَوَّل ما رأيت هذا الجوابَ في كلام القُرْطبي، وقد مرَّ عليه الدَّوَّاني أيضاً في «أنموذجة العلوم» وقَرَّرَه‏.‏

قلتُ‏:‏ ولنوضِّح ذلك بِمثال، وهو أنَّ رجلاً استأجَر أَجيراً، وقال له‏:‏ أُعطيك أُجرةَ نحو عَشرةِ رِجال، فكما أنه لا يَفْهَم منه إلاَّ أنه يُعْطي له ما يساوي أُجرةَ العشرةِ الأصلية، فكذلك فيما نحن فيه، لا يُعْطى له مِن قراءة‏:‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ إلاَّ مِثْل أَجْر ثُلُث القرآن الأَصلي، إنما يستحقُّ أَجْرَه الإِنعامي إذا قرأ الثُّلُث في الخارج‏.‏ وأما مَنْ قرأ‏:‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ ثلاثَ مراتٍ، فإِنَّه لم يقرأ في الخارج إلاَّ هذه، ولم يقرأ ثُلُثَ القرآنِ، فكيف يحرز أَجْرَه الإِنعامي وإنما جَرى ذِكْر ثُلُث القرآنِ لبيانِ الحساب فقط، فأَجْرُه لا يكون إلا بِقَدْر عَمَلِه، ولم يعمل في الخارج، إلا أنه قرأ السورةَ ثلاثَ مراتٍ، فلا يستحقُّ إلاَّ أَجْرَها، دون أَجْرِ ثُلُثِ القرآن التضعيفي، فإِنَّ التَّضْعيفَ إنما يُعتبر فيما خَرج من القوةِ إلى الفِعْل، ودخل في الوجود، ولم يَدْخل فيه غيرُ قُلْ هُوَ اللَّهُ فيعتبر تضعيفُها فقط، وأما ثُلُث القرآن فقط اعتبر لبيانِ الحساب فقط، ولا مغالطةَ فيما ذكرنا مِن مِثال المستأجر، لأَنَّ الأُجْرة هناك حِسِّيةٌ، يَعْلَمها كُلُّ أَحَد، بخلافِها فيما نحن فيه، فإِنَّها معنويةٌ، فالتُبس الحال، وأوهم أنه يحرز أَجْرَ ثُلُثِ القرآنِ مُطْلقاً‏.‏ وصَنَّف ابنُ تيميةَ في حَلِّ مِثْل هذه الأحاديثِ كتاباً مستقلاً‏.‏

وحاصله أن تلك المفاضلَة بحسب جاميعةِ المضامين، والمعاني، وعلوم القرآن، فلم يَحْمِلْه على الثوابِ، فمعنى قوله‏:‏ «إنَّها لَتَعْدلُ ثُلُثَ القرآنِ»، أي إنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قد حازَت من العلومِ ما حازت ثُلُثَ القرآنِ‏.‏ قلتُ‏:‏ والوَجْه ما ذكره القُرْطبي، أما ما ذكره ابنُ تيميةَ فَيصلُح أن يكونَ سبباً لتضعيف هذا الأَجْر، أي إنَّما يُعْطى لهذه السورةِ ذلك الثوابُ المضاعفُ، لاشتمالها على مضامينَ، ومعاني تُوجَد في ثُلُث القرآنِ‏.‏

باب‏:‏ مَنْ قالَ‏:‏ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم إِلاَّ ما بَينَ الدَّفَّتَين

ردٌّ على الروافض، حيثُ زَعَم الملاعِنةُ أنَّ عثمانَ نَقَص من القرآنِ‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ القُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الكَلاَم

باب‏:‏ الوَصَاةِ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل

والأحاديثُ في هذا الباب كثيرةٌ، ولعلها لم تكن على شَرْطه، فأخرج حديثاً من غيرِ هذا الباب‏.‏

5020- قوله‏:‏ ‏(‏كالأُتْرُجَّةِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ الطَّعْمُ باعتبارِ الباطن، والريحُ بحسب الظاهرِ، فَشَبَّه قارىء القرآنِ بالأُتْرُجَّة في ظاهرِه وباطِنِه‏.‏

باب‏:‏ ٌ‏:‏ «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ»

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏العنكبوت‏:‏ 51‏)‏‏.‏

باب‏:‏ اغْتِبَاطِ صَاحِبِ القُرْآن

21- بابٌ خَيرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ

باب‏:‏ القِرَاءَةِ عَنْ ظَهْرِ القَلب

قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏‏{‏يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏(‏العنكبوت‏:‏ 51‏)‏‏)‏ واعلم أنَّ الكاتب غَلِط ههنا، فكتب- الآية- ثُم ذَكَر تمام الآية أيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مَنْ لم يتغنَّ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ قال ابنُ الأَعرابي- إمام اللغة- في «تفسيره»‏:‏ مَنْ لم يضع القرآنَ مَوْضِع غناءه‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وتفصيله‏:‏ أنَّ المرء إذا اعتاد بالغناء يغلب عليه ولا يستطيعُ أن يتركه، ولذا ترى المُغني لا يزال يُدَنْدنُ في كلِّ وقت، فَعَلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن الذي عليه أن يَكُفَّ عنه، ويجعل القرآنَ دندنته وغناءه، حتى يأخذَ القرآنُ مأخَذَه، ويغلب عليه كغلبته، ويجلو به أحزانه وهمومه، كجلائه منه، فهو على حَدِّ قوله‏:‏

وخيل قد دلفت لهم بخيل *** تحية بينهم ضرب وجيع

أي وَضْع شيء مكان شيء، وقد قَرَّرناه سابقاً‏.‏

قيل‏:‏ الكلام على ظاهره، ولا بأس بِحُسْن الصوت إذا احترز اللَّحْن والتغيير في الإِعراب‏.‏ وقيل‏:‏ التغني بمعنى الاستغناء، كما في حديث تقسيم الخيل‏:‏ تغنياً، وتعفُّفاً‏.‏ وأُجيب أن الحديث ليس بحجَّةٍ في باب اللغة، إلا عند مالك‏.‏ وفَسَّره الراوي أولاً بالاستغناء، ثُم فَسّر الاستغناء بالجهر، وهذا عجيبٌ، وهذا التفسير غير مرتبط‏.‏

5024- قوله‏:‏ ‏(‏ما أَذِن للنبيِّ‏)‏ قيل‏:‏ المرادُ بالنبيِّ هو نبيُّنا صلى الله عليه وسلّم وقيل‏:‏ غيرُه‏.‏ ويوجدُ في الخارج لَفْظ «العبد» مكان‏:‏ «النبيّ»، فيكون الحديثُ وارداً فيه بوجهين، أو يكون الترجيحُ للبخاريِّ، وقد عقدتُ فَصْلاً في رسالتي «فَصْل الخطاب» أَنَّه لا تبلغُ على السموات إلاَّ صوتانِ‏:‏ صوتُ المؤذِّن، وقارىء القرآن‏.‏

5030- قوله‏:‏ ‏(‏ولو خَاتَماً من حَدِيد‏)‏ قيل‏:‏ إنَّ خاتَماً من حديد ممنوعٌ‏.‏ وأُجيب عنه أنه إذا كان مفاً جاز‏.‏ ثم رأيتُ في حديثٍ‏:‏ أنَّ الخاتَم المف جائز، فرأيت أن الاحتمال المذكورَ صحيحٌ‏.‏

5030- قوله‏:‏ ‏(‏بما معك من القرآن‏)‏ ومعناه عندنا بِلَحَاظ ما عندك من القرآن، وعند الشافعيةِ بِعِوض ما عندك من القرآن، وعند الترمذيِّ- في فضيلة ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ‏}‏- عن أَنس بنِ مالك‏:‏ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لِرَجُلٍ من أصحابه‏:‏ «هل تزوجت يا فُلان‏؟‏ قال‏:‏ لا والله يا رسولَ الله، ولا عندي ما أتزوَّجُ به‏.‏ قال‏:‏ أليس معك‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ثُلُث القرآن إلى أن سأله عن سورةٍ، ثُم قال في الآخِر‏:‏ تَزوَّج تزوج» اه‏.‏

وحاصله عندي‏:‏ أَنَّك صرْت أَهلاً للتزوج، فإِنَّ الرَّجُل ينكح إما لِماله، أو لِعِلمه، وإذ لم يكن عنده من مالٍ، فُتِّش عن عِلْمه، فإِذا وجده ذا عِلْم عَلِم أنه صار أَهْلاً للتزوُّج، فقال له‏:‏ «تَزوَّج تزوّج» فالناسُ حملُوه على المَهْر، وفهمت أنه قدر أنه هل يتزوَّج مِثْلُه لمثلها‏؟‏ فلما وجده صالحاً قال له‏:‏ ملكتها بما معك من القرآن، فهذا بابٌ آخَر‏.‏ وهذا على نحو ما تقول اليوم‏:‏ إنَّ ابنك صار ما شاء اللَّهُ عالِماً، فهلاَّ زوجته، كيف وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قد كان أَمَره أوّلاً بابتغاء شيءٍ من الأموال ليكونَ مهرَها، فلما لم يجد عنده شيئاً اكتفى في الحال بِصَلاحه‏.‏ ولك أن تَحْمِله على الخصوصية، لما في «سُنن سعيد بن منصور»‏:‏ ولا يكون مَهْراً لأحدٍ بعدك»‏.‏ إلاَّ أن إسنادَه ضعيف‏.‏

باب‏:‏ اسْتِذْكارِ القُرْآنِ وَتَعَاهُدِه

باب‏:‏ القِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّة

باب‏:‏ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ القُرْآن

باب‏:‏ نِسْيَانِ القُرْآنِ، وَهَل يَقُولُ‏:‏ نَسِيتُ آيةَ كَذَا وَكَذَا‏؟‏

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآء اللَّهُ‏}‏ ‏(‏الأعلى‏:‏ 6- 7‏)‏‏.‏

5032- قوله‏:‏ ‏(‏بِئْس ما لأَحَدِهم أَنْ يقول‏:‏ نسيتُ آيةَ كَيْتَ وكَيْتَ، بل نُسِّي‏)‏ يعني أما إذا ارتكبت معصيةً، وأُنسيت القرآنَ، فلا تَجْهر بها، فإِنك إن فات عنك الاستذكارُ والاستظهارُ به، فلا يَفُت عنك الأَدَبُ، وهو أنْ لا يَنْسُب النِّسيانُ إلى نفسه، ليدلَّ على تجاسره، بل يقول‏:‏ نُسِّي، كأنه مِن سببٍ سماوي‏.‏ وقد صَنَّف الدَّوَاني رسالةً في تعداد الكبائر، وعَدَّ فيها نِسيانَ القرآن منها‏.‏ قلتُ‏:‏ وأخذت من «الفتاوى البَزَّارِية» أنه كان يقرأ القرآنَ من المصحف، ولم يكن حافظاً، ثُم نسيه، فهو أيضاً كبيرة‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَرَ بَأْساً أَنْ يَقُولَ‏:‏ سُورَةُ البَقَرَةِ، وَسُورَةُ كَذَا وَكَذَا

فيه ردٌّ على مَن زعم أنَّ في تسمية سُورة البقرة إساءة أدب، وليقل‏:‏ السورة التي يُذْكر فيها البقرةُ‏.‏ قيل‏:‏ إنَّ الحَجّاج الظالم كان يمنع منه‏.‏

باب‏:‏ التَّرْتِيلِ في القِرَاءَة

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً‏}‏ ‏(‏المزمل‏:‏ 44‏)‏‏.‏ وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ‏}‏ ‏(‏الإسراء‏:‏ 106‏)‏‏.‏ وَما يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ‏.‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ‏}‏ ‏(‏الدُّخَان‏:‏ 4‏)‏ يُفَصَّلُ‏.‏ قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَرَقْنَاهُ‏:‏ فَصَّلنَاهُ‏.‏

وأصلُ الترتيلِ هو القراءة بحيث أن لا تنقطع الحروفُ، وتخرج من مخارجها، وأما ما اشتهر اصطِلاح القراء من الترتيل والحَدْر، فذاك مُراعىً أيضاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ‏}‏ ‏(‏الإِسراء‏:‏ 106‏)‏‏)‏ فالقرآنُ لم ينزل إلينا دَفْعةً واحدةً، وكذلك لم يُلْق إلينا مرادُه مرةً واحدة، فلا ينبغي للناس أن يتعجَّلوا في نزوله، أو في بيان مراده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يهزون‏)‏ أي لا يراعون الترتيلَ فيه‏.‏

باب‏:‏ مَدِّ القِرَاءَة

واعلم أنَّ مسائلَ التجويدِ كلَّها مأخوذةٌ من اللغة، ولم أَر في اللغة للمدِّ باباً، فلا أدري مِن أين أخذوه‏؟‏ وقد تصدَّى له السُّيوطي، فلم يأت فيه إلاَّ بحديثٍ واحد فقط وبالجملةِ إنْ كان المدُّ بالمعنى المذكور عندهم ثابتاً في اللغة، فَلِمَ لم يأخذوه‏؟‏ وإن كان صوتاً فقط، فالأَوْلى أن يأخذوا أَوَّلاً باللغةِ فيه‏.‏

باب‏:‏ التَّرْجِيع

باب‏:‏ حُسْنِ الصَّوْتِ بِالقِرَاءَة

5047- قوله‏:‏ ‏(‏يَقْرَأُ وهو يُرجِّع‏)‏ ولم يكن التَّرْجِيعُ مقصوداً، ولكنه حَدَث من حركةِ الدَّابّة‏.‏

5048- قوله‏:‏ ‏(‏لَقَد أُوتِيتَ مِزْماراً مِن مزاميرِ آلِ دَاودَ‏)‏ والشارحون أرادوا منه حُسْنَ الصَّوت فقط‏.‏ قلتُ‏:‏ بل مرادُه فوق ذلك، وهو أنَّ المزامير في الزَّبُور حَلّت محل السُّور من القرآن، فترى فيه في مبدإ كلِّ حَمْد مزمورة مزمورة، كما يكتبُ في القرآن السورة السورة‏.‏ فالمرمورةُ في الزَّبُور كالسورةِ من القرآن، وإذن ليس التَّشْبِيه على معنى حُسْن الصَّوْت فقط‏.‏

باب‏:‏ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ القُرْآنَ مِنْ غَيرِه

فيه دليلٌ على أنَّ الاستماع أَفْضلُ، فليستمع المقتدي قراءةَ إمامِه أيضاً، ولا ينازِعُه فيها‏.‏

باب‏:‏ قَوْلِ المُقْرِىءِ لِلقَارِىء‏:‏ حَسْبُك

نَبّه المصنِّف على أَمْرٍ مهم، فإِنَّ القرآن خَيْرُ مَحْض، لا يجترىء الإِنسانُ أن يقول لقارئه‏:‏ لا تقرأه، أو انْتَهِ عنه‏.‏ ومع ذلك فإِنه قد يُضْطّر إليه، فكان ذلك مَوْضعاً يُتحيّر فيه، فأجاب عنه أن ذلك سائغٌ له‏.‏

5050- قوله‏:‏ ‏(‏فإِذا عيناه تَذْرِفان‏)‏ وقد مَرّ وَجْه البكاء أنه قال‏:‏ كيف أشهدُ عليهم ولم أشاهدهم‏؟‏ فقيل‏:‏ إنه تُعْرض الأعمالُ عليك، والعَرْض عِلْم إجمالي‏.‏

واعلم أنَّ حقَّ الشهادة أن تكون عن مشاهدةٍ، ولهذا تأخَّر عنها عيسى عليه الصلاةُ والسلام،وقال‏:‏ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ‏(‏المائدة‏:‏ 117‏)‏ لا تَسْتدعي أن تكون بعد مُشاهدةِ جُمْلتها، بل تكفي مشاهدةُ البعض، ويدخل فيها الباقي تَبَعاً، أو تكون بِعَرْض الأعمال‏.‏ أما عيسى عليه الصلاةُ والسلام فهو بِصَدَر أداءِ الشهادة للزَّمن الذي كان هو فيهم، فلا تنافي بين أداءِ شهادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وعدم أداء عيسى عليه الصلاةُ والسلام، فافهم‏.‏

باب‏:‏ ٌ‏:‏ في كَمْ يُقْرَأُ القُرْآن

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏(‏المزمل‏:‏ 20‏)‏‏.‏

باب‏:‏ البُكاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرْآن

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيى، عَنْ سُفيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قالَ الأَعْمَشُ‏:‏ وَبَعْضُ الحَدِيثِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الضُّحى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ‏:‏ قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم «اقْرَأْ عَلَيَّ»‏.‏ قالَ‏:‏ قُلتُ أَقْرَأُ عَلَيكَ وَعَلَيكَ أُنْزِلَ‏؟‏ قالَ‏:‏ «إِنَّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيرِي»‏.‏ قالَ‏:‏ فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلآء شَهِيداً‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 41‏)‏‏.‏ قالَ لِي‏:‏ «كُفَّ، أَوْ أَمْسِكْ»‏.‏ فَرَأَيتُ عَينَيهِ تَذْرِفانِ‏.‏

باب‏:‏ مَنْ رَايَا بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ، أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ، أَوْ فَخَرَ بِه

والحديث لم ينحط فيه إلى ما دون سبعةٍ، وهذا عند المصنِّف، وأما في الخارج فقد صحَّ في ثلاثة أيام أيضاً، ولكنه ليس بحجَّة عليه، فإِنه يأتي بما يكون على شَرْطه‏.‏ ثُم إنه ثبت عن بعض السَّلف- أي الصحابة، والتابعين- أنهم كانوا يَخْتِمون القرآنَ تِسْعَ مرات في يومٍ أيضاً، أما الأولياء فهم أَكْثر كثير‏.‏ وكتب الشيخ عبدُ الحق أنَّ الشيخ بهاء الدين زكريا، كان يَخْتِم عنده ثلاث مئة وستين ختماً كلَّ يوم، فإِذا شاهدنا ذلك عن السَّلف إلى الخَلَف تعسر علينا أن نَرْمِيهم بمخالفةِ حديثٍ صريح عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم والعياذ بالله، وهم أَوَّلُ مَن عَمِل به‏.‏

ولكنا سنذكُرُ لك أمراً ينفعُك في مواضع، وقد ألقيناه عليك مِن قبل أيضاً، وهو أن الشيء إذا كان خيراً مَحْضاً، وعبادةً خالصة، ومع ذلك لا يكون للشارع بدّ من النهي عنه في بعض الأحيان لبعض المصالح، ففي مِثْله تتجاذبُ الأطراف، كما رأيت في الفاتحة خَلْفَ الإِمام، فإِنّه نهى عنها، وقد نهى، ومع ذلك ترى رَشَحاتِ الرُّخصةِ باقيةً، وكصوم الدَّهْر، فإِنَّه نَهى عنه، ثُم تترشح الرُّخصةُ أيضاً من التشبيه في بيان فَضْل صَوْم الدَّهْر الحكمي، وكالصلاة في الأوقات المكروهة، فإِن الأحاديث قد صَحَّت في النهي عنها، ثُم تجد فيها رُخَصاً من الشارع، فلا تستقرُّ الأحاديثُ في نحو تلك الأمورِ على وتيرةٍ واحدة، بحيث أن تَسْتمر بالأَمْر بها، أو النهي عنها، ولكن تارةً وتارةً، وما ذلك إلا لتجاذُب الأطراف، وتنازُع الأنظار‏.‏

ومِن ههنا ترى الأئمةَ اختلفوا في هذه المواضع غيرَ الصوم يومَ النَّحْر، فإِنَّهم اتفقوا على كونِه منهياً عنه، وأما في سائرها فكما رأيتَ الحالَ، وهذا الذي أراده عليٌّ لما ذهب إلى صلاة العيد، فرأى رجلاً يصلِّي بالمُصلَّى، فقيل له‏:‏ ألا تنهاه‏؟‏ قال‏:‏ أخاف أَنْ أدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيتَ الذي ينهى عَبْداً إذا صلَّى‏}‏ ‏(‏العلق‏:‏ 9، 10‏)‏ غير أني لم أَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم يصليها‏.‏ وذلك لأنَّ الصلاة خيرٌ موضوع، والإِنسانُ قد يتردَّد في أن ينهى عنها‏.‏

ثُم مرَّ ابنُ عباس على مِثْل ذلك، ونهى أن تُصلّى النوافل في المسجد، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ‏}‏وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏(‏الأحزاب‏:‏ 36‏)‏، فهل وجدت المعنى، وهل دريت ما أراد هذان، جَبَلا العِلم‏؟‏ والذي يظهر أن ابن عباس نظر إلى أنَّ للشارع ولايةً خاصة على أن يمنع عن عبادة أيضاً، وأما عليٌّ فنَظرُه أَوْسع منه‏.‏ فهكذا الحال في مسألة ختم القرآن، فإِنه عبادةٌ في أقل من ثلاثة أيضاً، فكيف ينهى عنها، ثم إنَّ الخَتْم في أقلّ منه يوجِب الهزَّ غالباً، وهو منهي عنه، فذلك يرجَّح المنعُ، فلم يستقر الشَّرْع فيه على شيء لذلك، ولا سبيل فيه إلاَّ إلى تقسيم الأحوال، فإِن قَدِر على الخَتْم في يوم، أو أقلّ منه مع تصحيح الحروف وحصور القلب فله فيه فْضْل، وإلاَّ لا ينبغي له أن يَلْعب بكتاب الله، وأولى له أن يقرأه على مُكْث وقلبه يرغبُ فيه، ويتركه وهو في هذا الحال، لا أن يملَّ منه‏.‏

وإنما المناسب لوظيفةِ الحديث الاستمرارُ بالنهي عنه لسدِّ الذرائع‏.‏ ومن ههنا تَتبيَّنُ مسألةٌ أُصوليةٌ للحنفية، أن النهي عن الأفعالِ الشرعية مقرر للمشروعية، بشرط أن تكون تلك العبادةُ بديهيةً واضحة‏.‏

5052- قوله‏:‏ ‏(‏كَرَاهِيةَ أن يَتْرُك شيئاً فَارَق النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عليه‏)‏ فإِنَّ في تَرْك شيءٍ كان يَفْعلُه في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تشاؤماً ظاهراً، فأبقى الحساب الذي كان عليه في زَمنه صلى الله عليه وسلّم أعني الإِفطارَ في نِصْف الشهر، والصوم في النِّصف، وإن غَيَّر طريقَه حسبما تيسَّر له‏.‏

5054- قوله‏:‏ ‏(‏ولا تَزِد على ذلك‏)‏ وفي طُرُقه لَفْظٌ عند النسائي يحتاج إلى الشرح فلينظر فيه‏.‏ كما قد وقع سَهْوٌ من راوٍ عن أبي داود، فذكر ليلةَ القَدْر في الأشفاع مع أنها في الأوتار، فإِنه غَلِط فيه، فحمل الشَّهر على ثلاثين، وجعل الأوتار كلها أشفاعاً، مع أن الشهر فيه كان مفروضاً بتسعٍ وعشرين‏.‏ وإذا انكشف الأَمْرُ استُغْني عن تأويله، فإِنه وجدنا في غير واحدٍ من الأحاديث أن ليلة القَدْر هي في الأوتار، فما نبالي بما عبر به راوٍ واحد‏.‏

باب‏:‏ ٌ‏:‏ «اقْرَؤُوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيهِ قُلُوبُكُمْ»

كنا نرى أن معنى قوله‏:‏ «وإذا اختلفتم فقوموا عنه»، أي مللتم عن قراءته، ثُم تَبيّن من الروايات أنَّ مراد الائتلافِ والاختلافِ هو ظهورُ النزاع في مجلس القراءة وعدمُه، أي اقرءوا القرآن ما دامت القلوبُ مؤتلفةً بَعْضُها ببعض، فإِذا ظهر بين المجلس اختلافٌ وانشقاق فتعوذوا بالله، وقوموا‏.‏